Are you sure you want to report this content?
الشمس تريد الولوج بأشعتها إلى عيوني و لكن النظارة السوداء قد حمت جفوني من الاحتراق حتى و إن ظهرت كالعمياء .
من النادر أن يقترح أبي أن نذهب للشاطيء رغم أننا نسكن في مدينة ساحلية تخلو من البشر تقريبًا . اليوم من فرط فرحته , دخل المنزل و قال لأمي بصوت متحمس مبتهج : هيا فلنذهب للشاطيء , فما جدوى المكوث في هذا المنزل . لم تستعجب أمي أننا سنخرج من البيت , أما أنا فصرت في غاية التعجب . ألسنا في حالة حرب كما يخبرني أبي و مدينتنا الجميلة تتعرض للقصف طوال النهار ؟ أيكذب هذا الراديو الذي يبث تلك الأخبار المؤسفة عن وقوع ضحايا و عشرات المصابين ؟ فجأة يُسمح لساكني هذه المدينة لتنزه في حين استحال نزولي للشارع إلى جريمة تستحق العقاب منذ يوم واحد ؟ و حتى إن كذب كل أولئك البشر بما فيهم والدي أتكذب أذني التي تلتقط أصوات المروحيات و يكذب قلبي المنتفض مع كل قذيفة ترتطم بالأرض لتحصد ما تحصده من أناس لا ذنب لهم سوى أن الموت اصطفاهم ؟
وجدت أمي تضمني لتحاصرني بذراعيها و سمعت حينها قلبها ينطق بإعلان الهدنة , و بات أبي هو أمير مدينتنا . سألته و في جوفي العديد من الاسئلة التي طمعت في العثور على أجوبتها :
- يا أبي , إلى أين سنذهب تحديدًا ؟
ابتسم و كأنه يسمع صرخات طفلة لم ينقطع حبلها السري , فهي أول مرة يسمعني أنطق بكلمة , فمنذ انزلقت من رحم أمي و أنا بكماء , صرخت صرخة الحياة لحظة ثم سكت دهرًا . العجيب أنه لم يرد .
ضيق عالمي رغم اتساعه , لم يكن في عقلي سوى ثلاث أصوات , صوت أمي و صوت أبي و صوت الهرة حين تموء .
فالكون هو بيتي , غرفتي كانت تستقبل شمس النهار , و من ثقب صغير قمت بعمله أستطعت أن استطلع أن هناك شيء آخر يُدعى القمر .. هكذا أخبرتني أمي حين سألتها .
سألت أبي من جديد :
- هل يجب أن ارتدي شيئًا محددًا للذهاب أم ثيابي هذه مناسبة ؟
قال و آثار الابتسامة في طريقها للاندحار من كثرة التساؤلات , ليس أمر غريب , فمن اعتاد أن يهب الأجوبة سيزعجه أن يُسأل :
- ارتدي ما يحلو لكِ يا حلوتي , فهذا يوم للترفيه .
لم أعرف ماذا يعني بكلمة ترفيه , لم تمر عليّ تلك الكلمة . فكرت أن اسأله و خوفًا من إثارة غضبه و تحسبًا لتداعيات هذا الغضب إن حدث آثر أن أصمت و أن أدع نفسي فريسة لفضولي حول ما يحدث خلف هذا الباب الحديدي . هل يكون خلف هذا الباب حُراس أشداء , يحملون البنادق ليدافعوا عنا في رحلتنا نحو الشاطيء ؟ هل هناك دبابات ستأمنّا باعتبارنا أحد رعايا المدينة أثناء ذهبنا للبحر ؟ هل يوجد بحرًا من الأساس ؟
سؤال في الثاني و لم اتمكن من التوازن و تملكني إحساس الجهل أو بالأحرى التشكك في كل شيء . الثوابت قد تنهار في ثانية و أريد بشدة أي شخص يُعيد على مسامعي الحقائق التي أخبرني بها أبي . لماذا انقطع صوت المروحيات و المذياع لم يعد يبث الأرقام التي حفظتها من كثرة بثها عن مدى المأساة في الخارج و أن مدينتنا على وشك الانهيار ؟
عندما وصلنا رأيت الشوارع في منتهى النظام , سيارات تغدو , نساء ملابسهن لا تشبه ما رأيته في شارعنا و لا ما يبثه تلفازنا , و كأني في كون موازي , أصبحت مشدوهة لا أفهم ما يدور حولي . الناس على وجههم شيء عجيب , لم أره من قبل فليتني أملك عيون تلمع مثلهم كمرآة تعكس نور بيّن للشمس . هل هذا جميل ؟ وفقًا لشارعنا , لا , فلا وجود لشمس مبتسمة , كإنها بين عمارات الشارع الشاهقة مسجونة , محشورة بين أزقة متسخة مكتظة مشحونة بأفكار تبدو فطرية صالحة و لكنها في ناهية الأمر كئيبة .
جلست بجوار أبي , و أمي على وجهها الشاحب ابتسامة تتنفس هواء النجاة , و أبي كالقاتل الذي عفى عن قتيله , زهو النصر و العفو يسيطر عليه .
عيوني و كعادة أول مرة في تجربة أي شيء يشوبها الترقب و المراقبة من بعيد , البحر أو المحيط هذا على الأرجح لا نهاية له . يُحدثني والدي دومًا عن أهوال الماء المالح , يقول لي أنه يبتلع الغريق و يذوّبه بعدما يخنقه . حينها تذكرت ما سمعته منه و سألته بنبرة مرتعشة و عاد الخوف ليلامس جسدي الذي يرتعش رغم دفء خيوط الشمس المخترقة المتسعة : كيف تمكن هؤلاء الناس أن يستحموا في ماء مالح دون أن يصبهم مس أو أجسادهم تأكلوها القروش و الحيتان ؟
ضحكا الاثنين و لم يرد أيّ منهما عليّ . الاسئلة تبدو لي أنا ساذجة , إذن لِم لا يوجد ردًا أكثر بديهية و إن بدا هو الآخر ساذج .
طيور تحوم فوق رؤوس من في الماء , ينزل عصفور عملاق إلى سطح البحر فارغ الفاه ليصعد و في منقاره سمكة لم تخطر حتى في أحلامي . يتقاذفون الكرة و أخرون يعبثون ببضع حبات من الرمل و آخرون يضحكون دون داعٍ .. الغريب أن لا أحد يمنعهم و لا حتى أبي . صوتهم المِرح الصاخب يعلو صوت الموج الحزين المرتطم بصخر الشاطيء .لِم ينزل الله عليهم سوء عذابه .. هل الله حاضر فقط في شارعنا ؟
دون سابق إنذار , سألني والدي : هل تريدين حلوى ؟ لِم لا تقومين فتتعرفين على إحداهن أو أحدهن فلقد انتهت الحرب يا حلوتي ؟
شعوري ساعتها كالحبل المشدود من ناحيتين , دهشتي من الحقيقة و خوفي من أن يكون قد كذب عليّ أبي . حينها لم أعرف أيّ كذبة أصدق .. هل فعلًا انتهت الحرب التي كانت في أوجها منذ سويعات ؟ الخاطر جال بي . مَن لم تعتد التفكير فجأة , تتغير مشاعرها , تتغير رغباتها . كان أقصى ما فكرت في نضجه هو جسدي , و مع أول مرة رأيت سيل من الدماء تسرب مني , لمست بأصابعي و لم أعرف حينها ما هو و سألت أمي , فلم تجبني . أمرتني بالاستحمام و التطهر , لكن كيف لي بالتطهر و أنا لا أعرفه , و هي كالعادة اكتفت بالقيام بما يلزم و أنا أسلمها جسدي تفعل به ما تشاء . قررت الانصياع لأوامر أبي , و لِم لا , فهو يعلم كل شيء .
قررت أن اتسكع قليلًا مستأنسة بظلي و بآثار قدماي اللتين أدسهما ورائي و يمسحهما مد البحر من بعدي . لم أشعر بالوقت حينها و ظللت أمشي و تجوارني الشمس , حتى بات قرص البرتقالي الباعث لشفق يغازلني و كأنه أراد أن يقبلني على وجنتي قبل أن يغازلني واحدة أخرى مثلي على الضفة الثانية من الأرض . تعثرت بحفرة , فغست في الرمال , فوجدت رجل عجوز يفوق أبي عمرًا , شقوق تمر كالأخاديد في وجهه الذابل المنير و أنف مقوسة تتوسط عيونه الضامرة . قام متكأ على عصاه , و وجهه يصدر صوت ضحكة قديمة بدت حبيسة و حان وقت إطلاق سراحها .
حاول أن يساعدني فطلبت منه أن يبقى مكاني حتى لا نقع نحن الاثنين في الحفرة فلا نجد من يدفنا . صعدت من الحفرة قليلة الارتفاع و حينها الغروب قد آن و الشاطيء أنفض منه الناس و لم أجد والدي على مرمى بصري . فتوترت ثم سكت . و تكلم الشيخ و أنا سرت أبادله الحديث :
- يا بنيتي , هل بتِ نائية عن منزلك ؟
- صدقني , لا أعرف أين منزلي .. كنت بصحبة والدي و لا أعرف أين هما .
- ظننتك راشدة كفاية لتتمكني من الذهاب و الإياب بمفردك . كم من العمر بلغتِ ؟
- سني من سن بدء الحرب .. أي أني على مشارف الاحتفال بعيد ميلادي السابع عشر .
- حرب .. أية حرب هذه ؟
- حربنا ضد قوى الاستعمار التي تقذفنا ليلة نهار يا شيخنا .. يبدو أن الزمن أنساك ماضيك .
- لا ينسى العجوز ماضيه ..و إن نساه ألّف غيره .
- لكن هذا العام ساحتفل لأول مرة بعيد ميلادي , لأني علمت اليوم أن الحرب قد انتهت .
- إذن هل جئتِ للشاطيء أم أنك تشاهدينه من شرفتك فقط ؟
- شرفتي .. لا نملك شرفة , أبي قرر هو و أمي حمايتنا من شر قذائف أعدائنا و عيون المتربصين بنا فقرر أن نبقى حيث ولدنا ... في الغرفة .
- و المدرسة ؟ ماذا تدرسين ؟
- أمي تدرس لي كل ما أريد ... أعرف عن علم الجغرافيا الكثير و أجيد التحدث أربع لغات و أما التاريخ فهي مهمة أبي فهو بارع فيه و متعمق في دراسته .
- أربع لغات .. هل منهم لغة أعدائنا ؟
_ بالطبع لا .
- كيف لكِ أن تحاربي قوم أنتِ لا تعلمين لغتهم ؟
- السلاح لا لغة له , و حين أقتل لا أحتاج سوى الشجاعة و حين أُقتل لا أحتاج سوى سلام الروح .. هذا ما عرفته من فلسفة الرومان , أمي أخبرتني به .
- مدهش يا بنيتي . و ها هي الحرب قد انتهت .. هل تنوين الذهاب لتكملِ تعليمك في المدرسة ؟
- لا أعرف , أنا أريد أن اتعلم , فما من العلم فرار يا سيدي .. لكن القرار يرجع لوالدي .
- هل أنتِ سعيدة في منزلك أم هنا على الشاطيء وسط البشر ؟
- في المنزل لأن كل شيء أفهمه .. أما هنا فهناك ما يثير فضولي و تساؤلات لا أجد مفر منها .
- يمكنني أن نفكر سويًا حتى يأتي أبواكِ و يصطحباكِ للبيت .
- كثيرًا ما سألت لِم نحارب و نعرف أن الأرض و من عليها فانون ؟
- طبيعة البشر النهم و الطمع .
- لِم أراكم سعداء هنا طوال الوقت يا سيدي .. أما في منزلي فلم أرى البسمة ثانية .. ألا تخوفون من نسيان دنياكم بالضحك و الصخب و اللهو ؟
- الضحك هو أساس دنيانا , هي روح الله فينا , الصخب مزعج و لكن أعتقد أن الأمر أكثر صخبًا داخل أجساد النفوس المريضة .
- قُل لي .. هل حاربنا فعلًا ؟
- لا لم نحارب قط و لن نحارب ... لا تخشي شيئًا يا حلوتي .
- لدي كذبتان .. الآن أصبح لدي ثلاثة . أيهم اختار لتكون الحقيقة ؟
- أظن لو أمامي الخيار هذا لاخترت ما وقر في قلبي و أشعرني بارتياح .
- لِم يُذيع التلفاز دومًا أخبار مُحزنة .. بنفس عدد الضحايا و الشهداء ؟
- التلفاز لم يعد يبث أخبار , أظن أن ما تشاهدينه فهو مسجل .
- لا , سأعود لمنزلي , فأنت رجل كبير خرف .
ضحك و لم يعقب عليها و ترك رأسها ينفجر من كثرة التساؤلات , ليتها ما فكرت , ليتها ما سألته و لا سألت نفسها . الاجابة أسهل من ألف سؤال معقد . تترجل مثلما جاءت لتعود ناحية أمها و تحتضنها و تترجى أباها أن يُعيدها للمنزل . رجعت مرهقة , متناقضة , شغلت التلفاز و جلست أمامه بعيون لا تغفو . و في يدها كتاب التاريخ و مراجع الجغرافيا و سطور تحتها خطوط في كتب الفلسفة اليونانية و الرومانية . ترفع من صوت التلفاز و المذياع سويًا , و تغلق باب الغرفة , أمها تزعق لتتمكن من الدخول أما أبوها فعلى وجهه علامة انتصار أو بالأحرى تشفي .
هل أهرب أم هذا سيلصق بي التهمة ؟ سأهرب . تركت الجثة على حالها و هرولت بسرعة قبل أن تحاصرني الشرطة
00أدركت حينها , أني و أنا في طريقي للبحث عن السعادة بين الناس ينبغي أن أكون سعيدًا ...لا يهم ما حدث
0018 Launches
Part of the Something Else collection
Updated on January 18, 2017
(0)
Characters left :
Category
You can edit published STORIES
Are you sure you want to delete this opinion?
Are you sure you want to delete this reply?
Are you sure you want to report this content?
This content has been reported as inappropriate. Our team will look into it ASAP. Thank You!
By signing up you agree to Launchora's Terms & Policies.
By signing up you agree to Launchora's Terms & Policies.