launchora_img

Illustration by @dariaesste

الخامسة صباحا

Info

الخامسة صباحًا , وجدتُه ميتًا , مُلقى على بطنه كحيوان نافق في إحدى الأزقة , يعبث به كل من شاء . صيف حار , طريق مزدحم , صفارات الشرطة تحيط بأذني من كل اتجاه .

هل أهرب أم هذا سيلصق بي التهمة ؟ سأهرب . تركت الجثة على حالها و هرولت بسرعة قبل أن تحاصرني الشرطة باسئلتها . فغالبًا , الحقيقة هي القصة الأكثر إقناعًا .

ذهبت و صرت أسير , دون وجهة . اتذكر الآن , شكل الجثة . يخرج منها رائحة عفنة لا تقدر أنف بشر أن تتحملها . يحيطها بركة من الدماء اللزجة , المتجمدة . على الأرجح , لقد مات هذا الرجل منذ وقت ليس بالقليل . أمر الآن وسط وجوه لا تطالعني . أصبحت وحيدًا . للحظة أشك أني الجاني . لم يتملكني الجوع . أصبحت شرهًا لمعرفة الحقيقة , لكني خائف و للغاية . هل كان يخشى هذا الرجل الموت حين قُتل مثلي الآن ؟ ماذا يخشى الموتى بعد وفاتهم ... الجحيم ؟ و ماذا يخشى أهل الجحيم بعد نيران تعذيبهم ... الخلود ؟ و لِم لا نعتاد الخلود في العذاب ... إن كنا معذبين في الأرض أًصلًا ... عذابٍ عبثي ؟

بعد مسيرة نصف الساعة . دلفت إلى حانة , كانت يدي ترتعشان . كانت الحانة مكتظة بالناس , وجوه عابسة . كانت هناك فتاة لا تكف عن النحيب , و ظل صوتها مزعجًا لحين غادرت . و لكن مع الوقت , اعتادت أذني النحيب و تجاهلها عقلي . قفز إلى ذهني , أنني احتاج إلى كأسٍ من الخمر , أسدل به الستار على ما ممرت به لتوي . جلست فوجدتها أمامي , فتاة في الثلاثين , شقراء , مثقوبة حلقة أنفها , يلف الخلخال كعبيها , ترتدي بنطال رياضي أبيض مسطور على جانبيه خطين أسودين , و قميص يشف محاسنها . كانت براعة الحسن و عيونها تشع طاقة . صبت لي كأسًا فسألتني :

- هذا الوجه الذي ترتديه ... وجه خوف , لن يجعلك تستمتع بكأسك الأول .

فرمقتها بنظرة لا تنم عن شيء و قلت :

- لقد رأيتُ جثة نافقة لتوي ... في الزقاق المقابل .

فردت قائلة :

- هل أنت من قتلها ؟

فقلت :

- هل أبدو لكِ قاتلًا ؟

فشربت كأسي الأول و قالت و هي تصب كأسي الأول و كأسها الثاني :

- هل تظن أن القتلة تحمل أيديهم الدماء ؟ القاتل هو الشخص الوحيد الذي يملك يدين تشبه أيادي الملائكة .

- إذن فإنكِ تظنيين أنني فاعلها ؟

- لا يهم ما أظن , الأهم هو أنك واثق من حقيقة نفسك .

كان شيء ما بداخلي , يجعلني أريد أن أكمل حديثي معها . فخير من تحدثه , يكون من لا تتوقع من أين تأتي أفكاره .

شربت من الكأس قبل أن تشربه هي , فما إن انتهيت . ذهبت لتصب كؤوس أخرى .

كان يمكث جواري , شاب في مثل عمري , حوالي الأربعين . سألني :

- هل ستشاهد مباراة اليوم ؟

- لست من هواة الكرة . بوجهٍ شاحب و ذهن مضطرب أخبرته .

صمت للحظة و قال :

- حاول أن تجد فيها المتعة , صدقني هكذا هي الحياة . إنها قد لا تفهم لكن هناك سحر بها يأسرك و يوفر لك الدافع لمعرفة المزيد .

فجأة شعرت أن هناك شيءٌ مريب من حولي . لِم أشعر فجأة أنني محاط بفلاسفة و عرافين ... يرون ما لا أرى . هل رأوا الجثة المتعفنة ؟ كان هناك غصة في صدري . هذا السر لا أقدر أن أبوح به لهم , فقد يتهمونني أنني القاتل و بصمتي سأكون أنا القاتل الجبان أو المتذاكي الأحمق . ماذا أفعل الآن ؟

ما زال أمامي خيار أن اتيقن من عدم ارتكابي لتلك الجريمة . هذا سيتم عبر تذكري أين كنت قبل الساعة المشؤومة .

لن أقدر أن أعود أدراجي الآن , فالزقاق يقع جوار منزلي . و إن عدت يجب أن أملك سيناريو محبك جيدًا في حال سألتني الشرطة .

بدأ رواد الحانة في الانصراف . كانت الفتاة المشغولة , تذهب و تجيء بين الفينة و الأخرى .

كنت أنا بمفردي , شربت حتى كدت أثمل . لا أثمل بسهولة بالمناسبة . امتلئت مثانتي و قررت أن أفرغ ما فيها .

الساعة على الحائط كانت الخامسة !

نظرت إلى ساعة يدي , فكانت العقارب متوقفة عند الخامسة .

دلفت إلى دورة المياه , كانت الرائحة كريهة لدرجة لا تحتمل , فالغائط يغطي أرضية الحمام . كانت الصنابير صدئة , يصعب فتحها , كحفرة المجاري يعبث فيها من القوارض من كل نوع كما شاءت .

هناك شيءٌ ما جعلني أدلف للداخل و أن اتحمل هذا كله . الفضول و الرغبة في المعرفة قد يدفع بنا إلى حافة جبل من جمر لا يكف عن الاشتعال .

دلفت و تقيأت ما في جوفي , ومن ظهري فجأة قبضت يد غليظة على رأسي المحشوة و عقلي الفارغ و أخذت تضربني بلا هوادة بعد أن أفقدتني الوعي . لم أقاوم , لم استطع ... لم أبالِ .

بدأت عيوني في التفتح كزهرة خجولة تنظر لتلقى الفتاة الشقراء تحمل رأسي الدامية . كانت تبسم لي , و لم تبنث بكلمة , مدت لي يد العون حتى استقمت و شد عودي و سرت معها كطفل تخلص لتوه من الحبو . كانت ملابسي عفنة إثر الواقعة , اختلط بها البول مع فضلات البشر و بعض الطيور النافقة و لكن لم تتمكن مني الحشرات , إلا إذا نظر أحدهم إلى حالي سيرمقني بنظرة إشفاق و تقزز دون أدني شك .

كانت الحانة على وشك الإغلاق . أجلستني و أخبرتني أنها ستذهب لتعطني ثياب نظيفة و عليّ القدوم غدًا إعادتها لأنها تخص زميلها في العمل , الذي يبدأ عمله في العاشرة من صباح الغد .

لم انتبه لما قالت و اكتفيت بتبديل ملابسي و لم انتبه إذا ما كان هناك من يراني أم أن الجميع قد رحل . فاختلس سواد عيوني نظرة دون إرادة مني , فلم أجد سواها في المكان . تركتني و راحت تنظف الطاولة المجاورة . قلت لها :

- هل رأيتي أحد يدلف إلى دورة المياه بعدي ؟

كانت منهمكة في عملها و يدها تعبث كما يتوجب عليها لتمسح الكراسي , لتخبرني بسخرية :

- دورة المياه مغلقة للإصلاحات . ألم ترى اللافتة ؟

فسألتها من جديد بلهجة بها بعض الحدة و الجدية :

- هل سمعتِ ما قلت ؟ اسألك ما إن رأيتِ أحدهم يدخل إلى تلك الغرفة القذرة بعدي ؟

نظرت إليّ فجأة و انقطع عملها و مالت نحوي بجذعها و بفمها المضموم و شفاهها الوردية التي اختطفت عيناي , قالت :

- لم يدخل بعدك سواك .

- إذًا أنا من ضربني على رأسي ؟ تظنيني مجنون ؟

- لا , لست هنا لأحكم . أنا هنا لأساعد إن طُلبت مني و أظن أن بارتادك تلك الملابس التي أعطيتها لك , فإنك على ما يبدو تطلب المساعدة . على أي حال يا صديقي , كلنا بحاجة للمساعدة .

لم اتردد تلك المرة و فقبلت منها أن تمد إلي يد العون . كانت يدها خشنة تشبه أيادي عمال التراحيل أو رجال المناجم . لعلها تمتهن عملًا أخر غير تقديم كؤوس الخمر للزبائن في تلك الحانة الصغيرة القذرة .

قالت لي فجأة :

- لكن أولًا علينا التخلص من الفوضى التي أحدثتها

انقبض قلبي و راحت أنفي تتذكر رائحة العفن المختلطة بفضلات بني آدم و بعض الطيور النافقة , فسألتها على الفور :

- لا تعنين بهذا أننا سندخل لننظف دورة المياه , صحيح ؟

- بالطبع , لا . فتلك غير قابلة للنظافة , تمامًا مثل آثم أدم و شهوته المؤقتة التي نعاقب عليها حتى الآن .

لم أفهم ماذا تقصد . فإن كانت حينها تعني القصة السخيفة المذكورة في الكتب السماوية , فهذا لا يعنيني , فهذا لا يعنيني في شيء . أنا لا أؤمن بشيء . أؤمن فقط بكوني أشك في كل ما حولي . نظرت تجاهها و سررت لأنني لن أدخل تلك المقبرة من جديد و نبهتني أن أنظف مكان المقاعد و ألتقط بعصا خشبية في آخرها قطعة من الحديد , الزجاجات الصفيحية و أضعها في كيس أسود يشبه الكحل الذي تضعه حول عيونها الأسيوية الذابلة .

انحىى ظهري و شرعت بالعمل و خفت الخوف و إن لم يكف قلبي عن الخفقان . عيوني تراقب الأرض التي نال منها البلل و رائحة البيرة التي كانت تملئ فمي و إن لم تمس عقلي بسوء . كان عقلي مقدس , مهما شربت لا أغيب عن وعي و لو للحظة . تصورت أنها قد تغلق الباب خلفها و ستريني مفاتنها , فنظرات الإعجاب و سعيها لمساعدتي , خيّلا لي أنها فتنت لمظهري , رغم أنني كنت رث الثياب و رأسي تقطر منه دماء و إن كانت غير غزيرة و لكن مقززة . كنت أضغط عليها بمنديل و لا أكف عن الشرب حتى يحمي النبيذ الآلم . النبيذ كالحلم , يحميك من ضراوة واقعك , لكنه يفتك بك تو استيقاظك ليخبرك أن عليك تحمُل بدل الآلم آلام لا حصر لها .

انتهيت من دوري و عُدت أجلس على مقعد خشبي من البلاستيك مجاور للباب . كانت قد فرغت من عملها و أغلقت الحانة و اقتفت آثري و كانت قد سألتني عن مكان الجثة . لم يمر الكثير من الوقت و لكني لم أرد أن أعود ثانيةً , فعادت الساعة تدق في يدي و تخبرني أنها الساعة الخامسة صباحًا . ها هي الشمس تلوح في الأفق , و لكن كان الشارع ما زال مثل نفسي لا يكف عن الصمت .

ها نحن قد وصلنا ... رأيت الجثة ممددة على وجهها و لا يوجد آثر للشرطة . موت عبثي لشخص لا يآبه به أحدٌ في تلك المدينة المنشغلة ليل نهار .

سمعتُ من بعيد همس أحدهم , كان شابًا مفتول العضلات , يعاني من عرج بسيط , في وجهه ندبة كادت تصل بين عينه اليسرى و فتحة مناخره , كان أصلع و عيونه تشع غضبًا عندما رآني , لم أعرفه قط . لكنني كنت حينها أمام الجثة و لم أفقه من سبيلي سوى الهروب . كانت الشقراء تحاول أن تعثر على دليل واحد لتاريخ هذا الميت ... حافظة ... بطاقة شخصية ... أو حتى صورة له مع أحد أحبائه . لكن الوقت لم يسعفنا . فاشتد خوفي . كان يسير نحونا الرجل ذات الندبة و فجأة بدأ يهرول ناحيتي و أنا لا أفهم من هذا و لِم قد اختارني لتلك المطاردة . كان يهرول ورائي . كنت سيزيف بلا حجر , أهرول و لا التفت ورائي ... لاأريد أن انظر كأوديب ... لا أبالي كغريب كامو ... لكنني كنت خائفًا تمامًا رغم ذلك . لم أفكر أنني بصحبة إحداهن , نسيت و كدنا نفترق إلا أنها لم تسمح لي و رافقتني دون أن تعرفني . كنت ألهث كالكلب الضار الفار من شرطة الحيوانات الضالة . فجأة توقفت . أخذت اتنفس بصعوبة و كانت الجميلة تسألني عن هذا الشخص الذي فقد آثرنا بفضل الأزقة الضيقة و هذا الصندوق الخشبي الذي سمح لنا بالاختباء ورائه .

سألتني بعد ما تمالكت أعصابها :

- لِم يسع هذا الرجل خلفك ؟

- لا أعرفه ... صدقيني .

- لا تعرف ؟ إذن لِم هرولت ؟

- لأنه كما كنت ترين , يسعى ورائي .

- و لِم يسعَ المرء وراء شيء في ظنَك ؟

- لأنه يريده .

- و لِم قد يريدك ؟

- لا أعرف . لعل يريد قتلي .

- كيف لي أن اتيقن من هذا ؟

- لن يمكنك سوى تصديقي .

- لا استطيع .

- إذن عودي من حيث جئتِ .

- لا أريد . فهناك في داخلي ما يدعوني لتصديقك . لكن ماذا سنفعل الآن ؟

- لا أعرف ... لتفكري أنتِ .

- ألستُ أنتَ القاتل ؟ ألا تتذكر من الحادث شيئًا ؟

- أقسم لكِ بكل ما أوتيت من صحة , أنني لا يمكنني حتى أن أقتل الآلم بداخلي , فكيف لي أن اقتل شخصًا لم أره قط .

أخبرتني أن أسير نحو منزلها , فمنزلي ليس بأمان بالتأكيد الآن . سأقضي هذا اليوم هناك و سأغادر متى شئت . فلن يشعر أحد بالراحة سوى حين ينام .

لم يكن يبعد منزلها عن مكان الحادث سوى بعض الشوارع . كانت تقطن شقة متوسطة الحجم , غير نظيفة , دخلنا فوجدت هرتها تجلس على الأريكة لا تتزحزح قيد أنملة و كانت تنظر نحوي في غيظ كالرجل ذات الندبة . كانت سمينة بيضاء , عيونها الخضراء تشبه الصبار , مغرية و مؤذية .

دخلت لتبدل ثيابها و أخبرتني أنني يجب أن أغتسل و أعطتني ثيابًا من عندها . دلفت إلى الحمام الصغير و تخلصت من ملابسي و وضعتها على حافة حوض الماء و أنزلت جسدي تحت شلال المياه الدافئ و أغمضت عيني فعاودت رؤية هذا الرجل العنيف و هو يجري نحوي , و خِفتُ ألا ينجلي من عقلي , فروّضته بلجام جسد الشقراء و وجهها الذي لا يشع سوى نورًا و تخيلتها معي تحت الماء . تمر الماء بين أجسادنا في عبث . نلتصق و لا نوُجد للفراغ مكانًا . كنت حينها أفكر , هل يكون هذا الالتحام بدافع الحب ؟ هل حين كنت أنام جوار العاهرة الروسية و أمرها أن تخبرني بالإنجليزية أنها تحبي و أنها تريدني أن أقبّلها ... هل حاجتي للحب أكثر إلحاحًا من حاجتي المؤقتة للمس جسدها العاري و تصوراتي المراهقة مغلوطة للجنس الآخر ؟

لعلها ليس معجبة بي من الأساس . هل هيأ لي أنها تتبسم لي ؟ و إن كان هذا صحيحًا , لِم قد تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تنتزعني من غفوتي و ارتباكي ؟

دائمًا ما تعبث داخلي اسئلة , سرعان ما تفتح لي أبواب لا تنغلق سوى بالإجابة المعروف لي ( لا أعرف ) . شيطانٌ فقط من قال أنه يعرف . لا أحد على دراية من أمره شيئًا . نقنع أنفسنا بما نريد الاقتناع به . نشبه من يشبهنا , نرفض أن نواجه أنفسنا بما يعيبنا . تمامًا مثلما أفعل الآن , ليت تلك الماء ينكر حقيقة قتل هذا الرجل البرئ !

ليت هناك ذنب يُغتفر , إنني لا أؤمن بقوى أعلى . أحسد هؤلاء المؤمنين بديانات سماوية , أحسد عباد البقر و الشمس ... أحسد من لقى في نفسه إلهًا كفرعون و الإسكندر الأكبر ابن آمون . أحسدهم لأنهم لديهم من يغفر لهم . من يخبروني أنفسهم أنه سيستقبلهم بالتوبة و المغفرة , أنا و شيطانهم سيان , لا يفرقني عنهم سوى سعيه المهدر في محاولة إرضاء من حوله ... إن صحت الرواية السخيفة . لِم قد يتلذذ إلههم بعقاب من عصاه و هو الأعلى شأنًا ؟ و إن كنا دمى يعبث بها القدر كيفما شاء , ما المتعة في مشاهدة ما رُسم مسبقًا ؟

فرغت من اغتسالي و خرجت محملًا بآثام السؤال دون صكوك غفران إجابات مُرضية . خرجت بعد أن ارتديت قميصًا و بنطال لا يناسباني مقاسي . قالت النادلة أنها تخص أحد الرجال الذين نامت معهم من يومين . فسألتها على الفور :

- و كيف خرج ؟

قالت و هي تضحك :

- بقميص و بنطال من جاء قبله .

فلم اهتم و جلست بجوار القط السمين الذي لا يزال صامتًا . فارغ النظرات , لا يبالِ , لا أخشى سوى أنه قد يعرف حقيقتي . حقيقة أنني متورط في جريمة , و قد أكون مرتكبها .

سألتني و قد ارتدت ثياب فضفاضة و شفافة تبرز ما وقر تحتها , لكني كنت مشتت الذهن , فلم تثيرني . سألتني :

- فلنخبر الشرطة .

قلت دون تفكير :

- لا طبعًا .

- و لِم لا ؟ أنت تقول أنك لم تقتله ... هل تكذب عليّ ؟

- نعم هذا ما اعتقده .

- لا يوجد هنا اعتقاد ... هناك حقيقة واحدة , أن هذا الرجل قد قتل و لم ينتحر , و أنك لست قاتله . هذه هي القصة التي ستسردها للشرطة , أليس كذلك ؟

- بلى , لكنني رغم ذلك لست على يقين من ذلك .

- إذن , اسرد لي أين كنت قبل قدومك للحانة .

شرعت لأخبرها أني أعمل في أحد المتاجر الكبيرة في المدينة التي تعمل 24 ساعة في اليوم , طوال الأسبوع و عملي يبدأ من الثامنة مساءًا لانتهي في الرابعة صباحًا , ثم أعود أدراجي لأنام بعد مسيرة حوالي الساعة لأرفه عن نفسي , فليس لدي ما أقوم به غير ذلك . لست متزوجًا , فالزواج عندي إثم لا يغتفر و يولد هلاك لتلك البشرية التي ينبغي أن نضع حد لجرائمها في حق نفسها . لا أملك سوى تلفاز قديم , أعيش في شقة ورثتها عن أبي , أعيش مع سلحفاتي . فأنا لا أحب الكلاب و إن كانت وافية . السلحفاة هي أقرب الحيوانات إلى قلبي . ليس لدي دخل في حياة من حولي في العقار , أسكن متى يغادرون و أغادر متى يسكنون . أعشق كوني وحيدًا . دخلي يكفيني وحدي . لست شرهًا في الأكل و تتجلى شوهتي في الجنس . فلابد لي أن امارسه مع إحداهن في بيتي , على الأقل مرتين في الأسبوع و في الإجازات يكون الأسبوع مكتظًا و في أماكن مختلفة عبر المدينة أقصد بيوت العاهرات . لست من هواة الارتباط , فقط تنتهي العلاقة بيني و بين الفتاة مع آخر قبلة أطبعها على كتفها و أترك لها النقود على الطاولة و أذهب للحمام لاغتسل و أخبرها أن تخلي البيت قبل خروجي . لكنني كريم للغاية بالمناسبة . أنا نباتي لا أعشق سوى الجزر و الخيار . لست لأني أؤمن بحرمانية ذبح و تعذيب الحيوانات , لكني لا أحب اللحم و الدجاج . أنا أؤمن بشيء واحد : ألا أؤمن بشيء واحد . اتعامل مع الجميع على قدر من المساواة , لا بالعدل . فالعدل مفهوم لا يدعو للمساواة . اخبريني ما العدل في معاقبة مجرم ؟

تاهت فيما أقول و قالت بعد أن قطعت شرود ذهنها بسؤالي :

- أنه مجرم ... سارق ... قاتل ... مغتصب . ارتكب جريمة .

- هل سيكف حين توقع عليه عقوبة بمليون سنة حتى ؟

- هكذا اخبرونا .

ضحكت منها و أردفت قائلًا :

- سأكون صريحًا معكِ . كل ما يعنيني ألا أُعدم لذنب لم أقترفه ... على ما أظن .

- إن ظنك هذا هو ما سيجعلك تسكن المهالك .

كانت تعد الحساء لكلينا و قبلها وضعت للهرة المتكاسلة طعامًا و بجاوره إناء لبن بارد .

أخذت أشرب و أمسكت بالطبق في يدي و كان دافئًا لا بأس به و إن لم يكن ساخنًا بدرجة كافيًا و لكنه يفي بالغرض و على أي حال لم أكن جائعًا .

أخذت تخبرني عن حياتها و إن لم أكن مهتمًا , قائلة باهتمام و عيون تشع نشاطًا :

- ... بالإضافة إلى كوني أرملة و كنت أم لطفلة جميلة , أجهضتها بسبب إهمالي لنفسي . كان لابد لي أن اتخلص منها . فأنا كما قلت لم أكمل تعليمي , و لم أرَ بُدًا سوى أن اعمل كراقصة عارية و كان العمل لمن يحملن غير مسموح به في الملهى الذي اشتراه رجل أعمال سلوفاكي , شهير يمتلك نصف الملاهي في المدينة . كانت أشد اللحظات قسوة في حياتي . أن تفقد حتى الحق في الرفض , فإن أبديت رفضي سأموت , لن يقتلني مثل أفلام العصابات , بل كانت سيتركني حتى أموت . و تعرف أن في انتظار الموت , موت غير رحيم بالمرة ...

كانت ثرثارة . كنت حينها أفكر فيما سأفعل . ليتني امتلك من أمري شيئًا . سرت أبدي اهتمامًا خارجيًا و أهز رأسي موافقًا أحيانًا , متعاطفًا أحيانًا , بالكاد انصت لما تقول .

كنت أريد حساءً أخر , فاستأذنتها للذهاب للمطبخ لأضع المزيد . فلم تمانع . سألتني :

- هل توصلت إلي ما ستفعله ؟ رأيي أن الوقت حان للذهاب لمركز الشرطة . إن صحّ ما قلت فلن يتهموك . و لكن هروبك من هذا , لن يجعلك تعرف حقيقتك و لا حقيقة من يجري و يسعى للقبض عليه . لعله هو القاتل , ألم تفكر في هذا ؟ لم تشاهد تلك الندبة العميقة التي حفرت في وجهه العابس ؟ بالتأكيد أن الشرطة ستميل لروايتك إذا ما وصفت لهم هذا الرجل و لعل له سوابق جنائية .

فكرت و أنا أصب حساء الخضار المائل للأخضر بسبب كثرة وضعها للبزلاء التي لم تكن محببة لقلبي و لكن مع كل حبة بزلاء تنقذني قطع البطاطس بطعمها اللذيذ . سمعت وقع أقدام خلفي و فجأة ذراع ضخم و يدين تشبهنا رأس الطرقة تطبق على رأسي الصغير التافه . لم أسمعها تدوي صخبًا , لعله خدّرها , فهو كما تقول أشبه بالمجرمين . كان يقول بصوت يشبه زئير أسد غاضب من رعاياه في الغابة :

- لقد قتلته و ستقتل على يدي . لن أسمح لك أن تحيا هانئًا أبدًا .

كان أحاول أن أضربه برأسي و لكن كل ما أشاهده في التلفاز الصدئ لم يجدِ نفعًا . فكالعادة , لا يذيعون في التلفاز سوى ما يرضي الخيال , أما الواقع فلا يجب أن يكون ذو نهاية سعيدة . كنت أنادي بصوت زاعق :

- ياااا أنتِ .... ساعديني .... من تكون أيها الرجل ؟ لم أقتل أحدًا ؟

حاولت أن أصيبه بقدمي , فضرب بحذائه الضخم العظم الذي يربط بين ركبتي اليمنى و فخذتي . كنت أتوه و لكنه أخرسني بيده و إن تمكنت من التنفس بأنفي الصغير . كنت في يده كالأرنب في يد الساحر , كالأضحية التي تقدم للإله طلبًا لرحمته . نغسل أثامنا بالدماء ... يا لها من مفارقة !

في النهاية كدت أرى الظلام و أموت نهائيًا . لكنه تركني , و كانت الشقراء أمامي , تنظر إلي و تضحك ضحكة غربية ... و قالت لي و في يدها سكين ظننت أنها قتلت به المجرم :

- أنتَ المجرم , ستموت و أنت تظن هذا . لقد حملت لك الحقيقة . لقد قتلت زوجي و هو الجثة الهامدة في الشارع الآن . الحقيقة التي أمليها عليك هي المطلقة . لست مؤمنًا بشيئًا , فلتؤمن بشيءٍ واحد فقط , أن تؤمن بكل شيء . لن تجد في موتك حتى راحة .

غرست في بطني السكين في برود , و كان الرجل ذات الندبة يقيدني و لم اتمكن من الافلات :

- ألم ترد نهاية لذلك العبث ؟ لك هذا . و لكن هذه هي حقيقتك ... أنت قاتل , و ستظل . لقد أدعيت ما أدعيت , و لكن جسدك يأبى الكذب كما يأبى الحياة الآن . سلامًا يا هذا ...

نشرة أخبار الخامسة عصرًا بعد هذا اليوم بشهرين :

( قبضت اليوم شرطة مدينتنا على السيدة م. مايلز البالغة من العمر 28 سنةً و عشيقها ب.مايكل المجرم الهارب من عقوبة بالحبس 15 سنة , بجريمة قتل سيدين , الأول و هو زوج المتهمة الأولى و الذي عُثر عليه مقتولًا في إحدى الأزقة و بتحريات من جميع الأجهزة تمكنا من التوصل إلى الجناة و بالتحقيق معهم , تبين أن هناك قتيل آخر ملقى جانب صندوق خشبي لا يبعد الكثير عن مكان الحادث بعدما شككنا أنه انتحر في بداية التحقيقات .... و أثبتت التحريات أن القتل بهدف الاستيلاء على حقيبة حملها الزوج المتهمة و كان يحمل بها تنازل كامل عن كافة ممتلكاته لابنته الوحيدة من زوجته المتوفاة و كان عشيق المتهمة قد ساعدها للايقاع و توريط الضحية الأخرى بإقحام بصماته على السكين المستخدم في الانتحار و قبلها عملية قتل الزوج ....)

تبدو لكم القصة غير مقنعة ... حاولوا ألا تلقوا مصير هذا العابس الذي مات عبثًا و كفوا عن التفكير . 


Be the first to recommend this story!
launchora_img
More stories by Omar
ما بعد اليوم الأخير

أدركت حينها , أني و أنا في طريقي للبحث عن السعادة بين الناس ينبغي أن أكون سعيدًا ...لا يهم ما حدث

00
في الفناء نفسه

في النهاية عادوا كلهم في ذات الفناء , و لا نعلم ما ستكتبه المعلمة في رسالتها .

00

Stay connected to your stories

الخامسة صباحا

23 Launches

Part of the Crime collection

Published on November 21, 2018

Recommended By

(0)

    WHAT'S THIS STORY ABOUT?

    Characters left :

    Category

    • Life
      Love
      Poetry
      Happenings
      Mystery
      MyPlotTwist
      Culture
      Art
      Politics
      Letters To Juliet
      Society
      Universe
      Self-Help
      Modern Romance
      Fantasy
      Humor
      Something Else
      Adventure
      Commentary
      Confessions
      Crime
      Dark Fantasy
      Dear Diary
      Dear Mom
      Dreams
      Episodic/Serial
      Fan Fiction
      Flash Fiction
      Ideas
      Musings
      Parenting
      Play
      Screenplay
      Self-biography
      Songwriting
      Spirituality
      Travelogue
      Young Adult
      Science Fiction
      Children's Story
      Sci-Fantasy
      Poetry Wars
      Sponsored
      Horror
    Cancel

    You can edit published STORIES

    Language

    Delete Opinion

    Delete Reply

    Report Content


    Are you sure you want to report this content?



    Report Content


    This content has been reported as inappropriate. Our team will look into it ASAP. Thank You!



    By signing up you agree to Launchora's Terms & Policies.

    By signing up you agree to Launchora's Terms & Policies.