launchora_img

Illustration by @luciesalgado

في الفناء نفسه

Info

في غرفة لا تتعدى مساحتها مساحة حانوت صغير محصور بين جدران زقاق آخره جدار يمنع سكانه من الخروج منه , قررت معلمة , تدّرس لفصل في حضانة ... أي لأطفال لا يتعدى سنهم الست سنوات , أن تمارس عليهم سلطاتها .

فصلها عدده كبير , فاصطفت منه أربعة طلاب , لم تختر خيرهم بل اختارت بمعيارها الخاص . أخذت الإذن من المديرة

أن تنفرد بالأطفال أثناء فترة الفسحة لتضعهم هنا بحجة أنها تريد إجراء بعض التجارب تخص رسالة ماجستيرها في

علم النفس الخاص بسلوك الأطفال في تلك المرحلة . وافقت المديرة و دعت لها بالتوفيق و حثتها على الحفاظ على سلامة الأطفال .

الطفل الأول يُدعى ( منصور ) , اسم غريب لطفل لم يعرف النصر في حياته , طفل منطوي , يجلس دومًا في ضواحي الفصل , لا يملك صديق , يحاول و لكن دائمًا ما يفشل بسبب صراحته غير المبررة , ففي مرة جاءت زميلة جلست بجواره تشتكيه للمعلمة , قالت له أنه يضايقها , فعندما سألته لِم تزعجها يا منصور , قال في وسط الفصل بصوت مرتفع إنها غزيرة العرق و رائحتها الكريهة تجعله يبغض المدرسة و الفصل , فضحك الفصل كله و حينها عندما شعر أنه انتصر . بكت الفتاة و ذهبت لدورة المياه , انبته المعلمة على ما قام به و قالت له أنه إذا رأى خصلة غير حميدة من أحد لا يجهر بها . فسكن لفترة , و في كل يوم يذهب للمدرسة , يأتي ليجلس بجوار الصبية التي أحرجها و يعطيها كعكة في يوم .. و يتقاسم معها قطعة الشوكولاتة في يوم آخر .. و لكن العجيب أن علاقته تتوقف عند عتبة الفصل , فعندما كانت تقترب منه لتلعب معه كان يتجنبها و يجلس وحيدًا رغم احتياجه لخليل أيًا من كان . و بالمناسبة , رغم نصيحة المعلمة له , إلا أنه أخذ يكتب في ورقة أسماء من ضحكوا حين تكلم و تذكرهم جيدًا , و في منتصف الحصة , كان يرفع أصبعه و يقول شيئًا يحرج به من على قائمته .

الطفلة الثانية تُدعى ( حبيبة ) , صغيرة القامة و جميلة كوالدتها التي يتبارى الذكور في المدرسة لتقديم الخدمة لها و لكنها إن أخذت من اسمها صفته .. فقد كانت المعلمة تقول أن جميع الأطفال يحاولون اللعب معها .. صبية كانوا أو بنات . حبيبة , كانت تحب أن يلعب معها أي أحد , لم تكن تكره أي شخص فتجدها تلعب مع أي من يعطها اهتمام , مبدعة في إجاباتها مع معلميها فالذكاء في الإجابة تجعلك تظن أنها فتاة ناضجة بلغت من الخبرة ما لم يبلغه الكبار فهي تلك الفتاة المجاملة . لكنها في غاية الانانية , حين كانت تحصل على المركز الثاني على الفصل كانت تسعى لترى أوراق من تفوق عليها قبل حتى أن ترى أخطاءها . ففي يوم من الأيام , هناك فارق نصف درجة بينها و بين صَبية , أخذت الورقة منها عنوة و قطعتها لتجعلها تبكي و حين أشتكت للمعلمة قالت لها حبيبة أنها لم تقترب منها و هي تفعل هذا لأنها تغار منها ... و تصوروا من صدقت المعلمة .. بالطبع حبيبة التي لا تكذب .. أو بالأحرى التي لم يكتشف أحد كذبها بعد .

الطفل الثالث .. يُدعى ( عاصي ) , مشاغب لا يأبه لشيء , لكنه يعشق قصص المصورة , لكن شخصياته المفضلة هي الأشرار .. يرى في نفسه روبن هوود . حين يُضرب الهزيل في الفصل و هو بالمناسبة رابع الأطفال الذين حبسوا في الغرفة و يدعى ( عنتر ) .. نعم عنتر .. كان يذهب ليبرح الفتيان التي تجمعت على هذا الولد الغريب الضعيف ضربًا و لكنه في النهاية يخسر و يرجع لمنزله بوجه ملون بالأزرق الممزوج بلون البنفسج , و كلما وعد المديرة بعدم تكرار هذا يعيد الموقف مرة أخرى , و إن تغير المُعتدي و المعتدى عليه . في مرة , رأى فتيات يسرقن شطيرة من فتاة مغلوب على أمرها , فلم يتدخل و ذهب إليها في يوم , و سألها لِم تتركيهن يسرقن طعامك ؟ فقالت له بتردد سيضروبنني و أنا في الأصل لست جائعة , فمرّ يومين و شاهدها و هي تضرب , فمر خفية قبل أن يراه أحد فضربها هي أولًا لتستعجب الفتيات , ثم ضحكن عليها و هي ملقاة على الأرض فنظر إليهم عاصي و ضربهن ملقيًا بالشطائر على ثيابهن البيضاء قبل أن تمسك به أحد المسئولات في المدرسة .

الطفل الأخير ( عنتر ) .. كما قلنا هو الحائط المائل , يخشى الناس ليس فقط زملائه , يحاول أن يجد مجموعة يلعب معها , و أحيانًا ينجح , عكس منصور . كان يحاول أن يتغلب على خوفه و يقترب ممن هم أقوى منه , فحاول مع عاصي و نجح و لكن تعامله اللطيف مع الفتيات لم يجدي تمامًا . كان يطلب من أمه الأرملة أن تُعد له شطائر تحوي دجاج أو كفتة , بحجة أنه يحب أن يأكلها في المدرسة و إن كان الأمر عكس ذلك .. فهذا الطعام هو الوسيلة التي جعلته يحظى بالأمان من الصبية الغلاظ و الفتيات اللاتي لن يكفن عن السخرية من مظهره السخيف و بنطاله القصير و قميصه الواسع و ياقته المتسخة و نظارته المتربة .

حان وقت المرور بنصف الساعة فسحة , و لكن نادت المعلمة على اسمائهم , فخاف عنتر .. ابتسمت حبيبة .. لم يبال منصور أما عاصي فقد سمع اسمه و غادر كأنه لم يسمعه .

استعدته المعلمة ثانية فقرر العدول عن قراره و استقر على أن يجلس في غرفة معدة و صغيرة تشبه غرفة الحصص بعض الشيء .

- معذرة يا أطفال , لكن اليوم ستخظون بالفسحة هنا أو في الفناء.. هذا خياركم , أمامكم نصف الساعة لتغادروا تلك الغرفة .

فضحك منصور قائلًا :

- لم أجد صعوبة إن أوصدتِ الباب , سنكسر النافذة فهي تطل على الفناء مباشرةً .

فتركتهم و غادرت و لم تنطق .. أمسك منصور كرسي صغير و إن بدا له ثقيلًا إلا أنه ألقى به ناحية النافذة ليُحدث صوت دون أن ينكسر الزجاج فتعجب و قال له عنتر بصوت يرتعش :

- أهكذا تحبسنا .. لم نفعل أي شيء خاطيء .. أليس كذلك ؟

لتقول حبيبة في براءة :

- الحبس .. لِم قد يفعلوا بي هذا ؟ أنا ذكية و شاطرة .. لِم من الأساس اختارتني معكم ؟

فيقول منصور في تعقل :

- بالطبع المعلمة لن تتركنا هكذا , فنحاول كسر النافذة من جديد .

يبكي عنتر و يقول :

- لقد نسيت شطائري في الفصل .. لن أتمكن من مغادرة المكان .

هرول بسرعة نحو الباب صارخًا .. كأنه محبوس .. ينادي و يقول : شطائري فيأتي أحدكم بطعامي .

و من سكونه و سكوته خرج عاصي و ركل عنتر بقدمه في منتصف بطنه و قال :

- همك دومًا على بطنك , لِم لا تفكر في سبيل الخروج من هنا .

فجلس القرفصاء عنتر و أخذ يبكي .. لتحيطه حبيبة بيدها و تلوم عاصي قائلةً :

- أنت إنسان كالوحش , لا تبكي يا عنتر خذ تلك الشطيرة لا أحتاجها لو كنت جائع .

لم يكف عن البكاء أما عاصي فلم يرد عليها .. أما منصور فحاول إيجاد ثغرة حتى عثر على فتحة تؤدي إلى الفناء .. في زواية ما في الغرفة الصغيرة , و لكن تلك الثغرة تتسع لشخص واحد .. فقرر منصور أن يحتفظ بالسر لي نفسه , و تركهم يتشاجرون و حاول أن يخرج منها و لكن حين أخرج رأسه لم يرى الفناء .. رأى غرفة أخرى تشبه تلك التي غادرها لتوه فحين حاول الرجوع لم يعرف بسبب هبوط قضبان حديدية منعته . وجد نفسه في غرفة جديدة وحيدًا يفصله عن زملائه مرآة عازلة للصوت و في خلفيته صورة فناء المدرسة , فكان يشاور لهم بيديه نحو الثغرة , فلما وجدها عنتر حاول الولوج من خلالها ظننًا منه أنها السبيل لم يفلح . فرجع ليبكي .. أما منصور فجن جنونه .

ربع الساعة مرت و تبقى مثلها .. بحث عنتر و صار يضرب الحائط بيديه و لكنه فشل , أما عاصي فرأى في حبيبة وسيلة لتوصله لفتح التهوية في الغرفة و حين طلب منها هذا ساعدته , و جاءت بكرسي وحيد مكسور في الغرفة و قالت له سأساعد في الصعود و حين تنجح تساعدني .. قال لها : بالتأكيد . فقال أنه لن يتمكن من دفع الفتحة تلك بمفرده .. فتوددا إلى عنتر و وعدوه إن مد يد العون لهم سيتناول شطائره و ستكون له فسحة طويلة بعد الخروج من هنا . انخدع و ساعدهم و ارتفعا بالكرسي المكسور و الذي يحمله لهم الطفل الهزيل . نجحا و عبرا من فتحة التهوية ليجد عاصي نفسه يخلف حبيبة التي ركلته بقدمها ليقع على عنتر و كرسيه فيهشمه إربًا . فتجد حبيبة نفسها في فناء المدرسة الفعلي و لكنه كان خاويًا .. الفسحة انتهت على ما يبدو . لم تجد أحد سوى المعلمة بانتظارها , تبسمت المعلمة و أخذتها من يدها و رجعت بها للفصل .

تبقى عاصي و عنتر , لم يجد عنتر طريقة للتعبير عما يجول في روحه سوى الضحك على منظر عاصي .. ضحك هستيريًا حتى انفجر عاصي بوجهه العبوس هذا ضاحكًا هو أيضًا . قال له عنتر :

- لقد نست البلهاء شطائرها .. سنحظى بالفسحة هنا و ربما لن أغادر .

قال عاصي في حدة بعدما انتهى من ضحكه :

- لا سنجد وسيلة فمهما كان لن نحبس مثل منصور .. هل ترى يبكي .. انظر يا عنتر .. أنا لا أريد أن أكون بمفردي مثله .

صاح فيه عنتر :

- الوقت سيمر و ستأتي المعلمة لتخرجنا لا تقلق .

قال له عاصي :

- على راحتك .. سأذهب أنا .

و بالفعل حاول إيجاد مخرج حتى أنه قال في نفسه ... لعل الباب العادي هو الحل .. لكني إن خرجت سيخرج معي هذا المسخ و لن أكسب تلك المسابقة.. أهي مسابقة فعلًا؟ على أي حال فكر فيما يملك .. فكان في جيبه قطعة حلوى لم يأكلها بعد .. فذهب لعنتر و أعطاها له و قال له :

- تعرف أن تلك الحلوى ستكون بمذاق الشوكولاتة ثم الفراولة التي تحبهما إن أغلقت عينك و أنت تأكلها ؟

كالأبله الشره .. أخذها منه و تناولها و أغمض عيونه .. و لكن هل سيفتح الباب لعاصي .. نعم لقد فُتح .. لكن وجد عاصي نفسه في غرفة ثانية يصطف فيها كل الفتية التي تلقوا منه ضربات قاسية . فأبرحوه ضربًا و ركلوه حتى بكى كما لم يبكِ من قبل .

أما عنتر فجلس مستمتعًا بشطائرهم و الحلوى .. و لم يبكِ نهائيًا . منصور حُبس و لكنه خرج من غرفته و أصبح يجلس دون أن يحدث أحد .. أما عاصي فكف عن ضرب زملائه و كوّن مجموعة أصدقاء لم يكن هو على رأسهم بل كان الهزيل صاحب الشطائر المهيمن . حبيبة حين صحبتها المعلمة , قالت لها و أقسمت أنها ستتقاسم أيّ شيء مع زميلاتها و اعترفت بتمزيقها لورقة امتحان زميلتها . الهزيل أخذ مكانة لم يطمح إليها .. مكانة لا يستحقها .

في النهاية عادوا كلهم في ذات الفناء , و لا نعلم ما ستكتبه المعلمة في رسالتها .


Be the first to recommend this story!
launchora_img
More stories by Omar
الخامسة صباحا

هل أهرب أم هذا سيلصق بي التهمة ؟ سأهرب . تركت الجثة على حالها و هرولت بسرعة قبل أن تحاصرني الشرطة

00
ما بعد اليوم الأخير

أدركت حينها , أني و أنا في طريقي للبحث عن السعادة بين الناس ينبغي أن أكون سعيدًا ...لا يهم ما حدث

00

Stay connected to your stories

في الفناء نفسه

28 Launches

Part of the Something Else collection

Published on January 29, 2017

Recommended By

(0)

    WHAT'S THIS STORY ABOUT?

    Characters left :

    Category

    • Life
      Love
      Poetry
      Happenings
      Mystery
      MyPlotTwist
      Culture
      Art
      Politics
      Letters To Juliet
      Society
      Universe
      Self-Help
      Modern Romance
      Fantasy
      Humor
      Something Else
      Adventure
      Commentary
      Confessions
      Crime
      Dark Fantasy
      Dear Diary
      Dear Mom
      Dreams
      Episodic/Serial
      Fan Fiction
      Flash Fiction
      Ideas
      Musings
      Parenting
      Play
      Screenplay
      Self-biography
      Songwriting
      Spirituality
      Travelogue
      Young Adult
      Science Fiction
      Children's Story
      Sci-Fantasy
      Poetry Wars
      Sponsored
      Horror
    Cancel

    You can edit published STORIES

    Language

    Delete Opinion

    Delete Reply

    Report Content


    Are you sure you want to report this content?



    Report Content


    This content has been reported as inappropriate. Our team will look into it ASAP. Thank You!



    By signing up you agree to Launchora's Terms & Policies.

    By signing up you agree to Launchora's Terms & Policies.