launchora_img

ما بعد اليوم الأخير

Info

 و كأن القيامة حانت ، استيقظت فلم أجد أحد ، ليس فقط في المنزل .. بل في الحي . هل

اليوم عطلة رسمية ؟ و لو كانت كذلك ... كيف تكون الشوارع التي تطل عليها نافذتي

خاوية هكذا ؟ ناديت بصوت معتدل .. أمي ، يا أمي .. لكن ما من مجيب .

أين كلبي المدلل ؟ لا أجده هو أيضًا .

اعتقد أني أحلم ، هززت يدي فشعرت بها رغم أني لم أفق من غفلتي ، فأحيانًا الأسوء من

الكابوس هو عدم قدرتك على الانسحاب منه . أخذت اتفقد المنزل ، كل شيء في محله إلا أن كل من في البيت غادروه . سئمت من كثرة ندائي الذي لم يعد يلفح .

جلست على كرسي في الصالة ، جهزت الشاي و بعض الشطائر ، و قلت في نفسي اليوم

إجازة من العمل فإلى أين يجدر بي الذهاب ... إلى المقهى لملاقاة أصدقائي ...

لا لا سيكون هذا في آخر الليل ... هل أنزل لاتسكع قليلًا فترى عيني مشهد بديع للبحر أو

لحديقة تتهادى داخلها كرة تعانق صدر طفل صغير ترتسم على فاهه ابتسامة بريئة لن

تنزوي أبدًا ... أم أجلس فاشاهد ما في التلفاز من برامج مملة و رتيبة لا تكسبني سوى

السخط على عيشتي .. لا لا سأذهب للمكتبة في الميدان الكبير لاقتني بعض الكتب

ثم أذهب لأجلس في مطعمي المفضل لأكل شطيرتي اللحم المصحوبتين ببعض البطاطس المقلية و كوب البيبسي المغذي في ذلك اليوم الحار ،

و بعدها قد تأخذني قدمي إلى الشاطئ لكي اتنسم بعض هوائه المنعش .

غادرت المنزل و تركت خلفي الأنوار مضاءة ، في حال تأخرت تمكنت من تمييز منزلي في هذا المربع السكني الصغير . انتطرت في الشارع ، فلم أرغب في ركوب سيارتي ، و لكني لم أجد ما استقله ... نصف الساعة مرت على مكوثي هكذا . مللت الانتظار ...

سعيت لركوب سيارتي ، فاليوم بدأ ينفذ مني ، توجهت كما خططت للمكتبة و حمد لله إنها

مفتوحة ، و لكن مفتوحة زيادة عن اللزوم .. أين البائع ؟ لا أجده .

رأيت كتب مرصوصة كما شاهدتها بالأمس و اشاهدها كل يوم ، لكن لا يوجد أحد على

خزنة النقود ، سلمت تحية لله ثم توجهت و بعد بحث مطوّل ظفرت بما أردت و عدت من

جديد نحو الخزنة فوجدتها خالية من أي نقود .. فوضعت ثمن الكتب و أغلقت المكتبة و

رحلت .

كم تسألون أنفسكم حالًا... أعرف .. أتفهمكم تمامًا .. كان حالي مثلكم حينها .

لكني لم أكن بحاجة ماسة لمعرفة ماهية ما حدث ، فما حدث قد حدث ولا جدوى من فهمه ،

الجدوى هي كيفية التعامل معه و تجنب أي عواقب له . ركبت السيارة و عندما وصلت

للمطعم ، كان حاله لا يختلف كثيرًا عن المكتبة ، فأعددت لنفسي ثلاثة شطائر بدلًا من اثنين و أكلت حتى أصابتني تخمة و شعرت بضيق و صعوبة في التقاط أنفاسي و معدة تنتفخ

سريعًا .. لذلك جريت نحو الباب و أخذت أركض كالمجنون ، يا لها من حرية !

تفعل ما تشاء .. كنت أهرول فأقع ، و لكن أقوم من رقدتي بسرعة ، كنت أهتف باسمي ،

كنت أسب .. لا لا كنت أغني ما يخطر على بالي من أغاني لم يرغب أحدًا أن يسمعها مني ، كنت أحاول القيام بكل ما خطر ببالي حينها .

تركت سيارتي و ترجلت نحو الشاطئ ، البحر كان مبسوطًا ، و السماء مزخرفة بسُحب

رشيقات كراقصات الباليه تتمايلن على نغمات أصدرها صوتي المزعج .

قلت في نفسي هيا .. لا أحد هنا ... و الكون في يدك الآن لا تأسف على فقدانهم فلقد تملكت حريته الآن .

فوجدتني كطير حبيس قتُل حابسه و فُكت قيوده و كُسر قفصه .. كنت في غاية ... غاية ال... الع... نعم , كنت في غاية العبث و التهور .

نزلت ببدلتي التي اعتدت ارتداءها في العمل إلي البحر , دون خوف ، و إن لم

أغُص في عمقه ، فإن لم أجد لنفسي طولًا لن ينجدني سوى ملك الموت .

مع اقترابي من الشاطيء من جديد , صوت ناي حزين يناجي , و كأن اللحن يُخرج هواء

مترب يحمله عازفه منذ دهور . لا تسيئوا فهمي , فالمعزوفة شابهت عزف الملائكة في حال

أمرهم الله بعزفها , موسيقى لم تألفها أذني , لم أسمعها .. هل فعلًا العازف ملاك ..

نساه رب العرش بعد قيام الساعة .. لا لا , كيف لي أن أفكر في هذا ؟ بالتأكيد من لم ينسَ

عاصي في غفلته لن ينسَ طائع في حاجته .

وجدتها تجلس خلف قارِب قارَب على الغرق في الرمال , اقتربت متحسسًا خطواتي , فلم

أرد أن تتوقف عما تعزفه ... فتاة لو وجدتها في طريق لمرت أمامي مرور الكرام و لم انتبه لما تحمله شفتاها من هبة لا قبل لأي إنسان بها على إصدار مثل تلك النغمات .

سألتها بعد أن فرغت من عزفها :

- أين ذهب الناس ؟ لِم لا أجد حتى كلاب ضالة و لا أسمع مواء قطط شريدة تبحث عن رزق يومها ؟ أقامت الساعة و نحن منها غافلون ؟

نظرت إلي بعيون شاردة تسبح في فراغ المحيط الممتد أمامنا كأنها تسّبح في سكون , فترد

بعد ما ضحكت لوهلة .. كنت حينها أحسبها تسخر مني , لكن سرعان ما أدركت أنها

سخرت من ذاتها , لتقول لي :

- الناس .. فعلًا .. لا يوجد أحد في الشارع .. و أنا من ظننت أني فقدت سمعي مع بصري

أيضًا , اعذرني فلا يمكن لضرير أن يرى ما لم يرَ صحيح النظر .

لم أفهم سوى أنها كفيفة , فإذ بها تقول في سرور بالغ :

- حمدًا لله , فلقد هُيأ لي أن الناي يخدعني و أن الصوت صادر هذا ليس سوى خيال .

فسألتها من جديد :

- إذن , فأنتِ تائهة .. لا أهل لك , كيف وصلتي لهنا وحدك ؟ لماذا لا نجد بشر مثلنا .. هل

فاتنا الحساب فعلًا ؟ لقد سبقونا للجنة و كُتب علينا مثلما كُتب على والدينا في الأولين .

بحثت بيدها عن كتفي و ربتت تلك الفتاة عليه لتطمئنني قائلةً :

- على رسلك , ما حاجتك أنت بالبشر ؟

- ما حاجتي ؟ كيف .. بالطبع نحن بحاجة لبعضنا البعض .. و إن كان عكس ذلك , فلِم خلقنا الله أقوامًا و شعوب مختلفة ؟

- و هل هذا ما حدث .. أكنتم متآلفون مع أنفسكم لكي تكونوا هكذا مع غيركم ؟

- لا لا , لا تجادليني , أريد إجابة واحدة , فإن امتلكتيها فلتفظيها و إن كنتِ تجهليها فحريًا بكِ الصمت .

صمتت و لم ترد عليّ , كدت أذهب , و لكن عزفها للناي أرجعني لها , فاعتذرت على

غضبي منها و طلبت منها أن ترافقني لنفهم ما حدث و أين اختفى ساكنو الدُنيا .

حين سرنا معًا , يدها اليسرى تطوق ذراعي اليمنى , و بدأت هي بالكلام مجددًا :

- لِماذا أراك خائفًا هكذا من كونك وحيدًا ؟ أليس عندنا طعام يكفينا دهورًا و معنا ناي يصدر لنا ألحانًا لا حصر لها .. و معنا شمس تضيء لنا دون سأم .. و قمر يشبع عيوننا المتلهفة ضياءًا .

- هل منا من يحب الوحدة في المطلق .. أخطر ما في الموت هو أنك ستموت وحيدًا يا فتاة .

- إذن , فلنواجه تلك الحقيقة بالتمتع بما تبقى لنا من هذا العالم و نعبث كيفما شئنا .

ما سر تلك الطاقة التي تحوزها تلك الضريرة , لا أرَ في هذا اليوم جمالًا أما هي رغم

أن نظرتها للدنيا لا تقل ظلامًا عن نظرها و لكنها تفني نفسها في متعة لا تراها .

ذهبنا سويًا للملاهي , لعبنا بعض الألعاب الخطيرة بمفردنا , صرخت هي و تحول سكونها

أمام المياه لضحكات صاخبة عالية , تبعث في نفس المستمع إليها سعادة لا تُوصف .

حين غادرنا الملاهي , طلبت مني أن نذهب لمشاهدة فيلم في السينما , فدخلنا سويًا و شغلت

لها فيلم و كنت أشرح لها ما يحدث حين ينعدم الحوار .

و من بعدها قالت لي كمكافأة لي على ذلك اليوم , ستعزف لي على البيانو في أكبر صالة

للموسيقى في مدينتنا و سيكون عزفها على البيانو لي بمفردي .. و بالفعل دلفنا لأكبر مسرح للأوبرا و أجلستها على المقعد المقابل للبيانو و رحت أجلس أمامها مستمعًا للحن حلقت

نفسي مع كل نغمة فيه . صفقت لها و كان اليوم , بفضلها , من أفضل الأيام لي ..

بعد يوم طال و على كان على وشك نهايته .. سألتني :

- هل ستعود أدراجك ؟

- قلت لها ما عساي أن أفعل .. بالتأكيد سأعود للمنزل .

- مدينة بأكملها خاوية و ستمضي لمنزل .. آسفة لكن هذا سخف و غباء .

ازعجتني الكلمة فصمت و قلت لها :

- سأحاول جاهدًا المرة القادمة أن أكون أقل غباءًا و سخفًا .

سألتني على الفور :

- لِم لا توصلني للشاطيء أولًا ثم تفعل ما شئت ؟

راقتني الفكرة .. لا أعرف لِم ... بل أعرف , لكن لا يمكني البوح بالسبب .

و نحن في سبيلنا للوصول , سألتها أنا تلك المرة :

- هل تعرفين أني أكره الناس و لكن ليس أكثر من غيابهم .. هذه هي المعضلة .

- أنا كذلك , أشبهك , هل كان الناس سيسمحون لك بالقيام بكل هذا في اليوم ذاته .. هل

يمكنك الضحك دون أن ينظر إليك من حولك باستنكار و يوبخونك بسبب صوتك المرتفع ..

هل يمكن لضريرة أن تذهب للملاهي و تلعب بمفردها دون أن يستعجب الناس من قدرتها أو يتم التصفيق لها لكونها ضريرة .. هل يمكن أن ندخل للسينما و نعبر دون طابور طويل و

إزعاج يسببه لنا من كرهوا الفيلم أو من يضحك على مشهد مأساوي .. هل يمكنك الصراخ

أو البكاء أمام أحدهم دون أن يشفق عليك أو يلومك على فعل مثل هذا .. هل يمكنك ... لا

أعرف ماذا أذكر أيضًا , لكن ما عرفته أنني تمكنت من فعل ذلك و لو ليوم واحد لا أحد

ينظر لي و لا أحد يحكم عليّ و لا أحد يكترث لأمري .

- صحيح , أحيانًا يصعب عليّ فهم مراد الله من تواجدنا , من تواجدنا هنا .. ننسى غايتنا و نعمل كملائكة تنفذ دون عصيان , أقل ما في الأمر أن تلك الملائكة تصغي لرب عليم , أما

نحن نقول آمين لمن بشكل قوة و سلطة فقط , نذعن لأوامر من أجل بعض النقود نصرفها

لاقتناء ملابس تعجبه هو أيضًا و لا ترضي أذواقنا بالكامل .

- لا يوجد أحلى من الصمت .. لكني لا أظنك ستطيق البقاء هكذا دون أن تبحث في سبب ما حدث .

- لا تقلقي , سأحاول التأقلم مع الواقع , و لكن على أي حال سأكون بجوارك , سأجرب اليوم النوم على ضفاف محيطنا الساكن .. و من صباح الغد سأسعى كل السعي لأظفر بأجوبة .

لم يقظني منبه كما يحدث يوميًا , فقط بعض الطيور و خيوط الشمس الرفيعة تسللت من

وراء حائط السحب فخالجت فكري لتوقظني من غفوتي . استيقظت فلم أجد فتاة الناي .

حين أخذت في البحث عنها , تهت في مدينتي الصغيرة و عرفت أنها لم تكن من الأساس

موجودة , و لكني أخذت في الصراخ و أيقظت روحي النائمة بأهازيج و أغانيبعد أن شغلت مكبرات الصوت في كل محل يبيع أسطوانات الموسيقى حتى أصبحت المدينة بعد أن كانت خاوية من الناس ... مليئة بأرواحهم .

أدركت حينها , أني و أنا في طريقي للبحث عن السعادة بين الناس ينبغي أن أكون سعيدًا ...لا يهم ما حدث فمصيرنا كله للزوال ... فوجودهم كعدمه و أحيانًا أفضل , الأمر يرجع دائمًا

لي كما رجع قبلي لفتاة الناي , نزلت من السماء ... عزفت ... ضحكت ... فعلت ما تبغى

ثم رحلت في سلام .  


Be the first to recommend this story!
launchora_img
More stories by Omar
الخامسة صباحا

هل أهرب أم هذا سيلصق بي التهمة ؟ سأهرب . تركت الجثة على حالها و هرولت بسرعة قبل أن تحاصرني الشرطة

00
في الفناء نفسه

في النهاية عادوا كلهم في ذات الفناء , و لا نعلم ما ستكتبه المعلمة في رسالتها .

00

Stay connected to your stories

ما بعد اليوم الأخير

30 Launches

Part of the Life collection

Updated on March 24, 2017

Recommended By

(0)

    WHAT'S THIS STORY ABOUT?

    Characters left :

    Category

    • Life
      Love
      Poetry
      Happenings
      Mystery
      MyPlotTwist
      Culture
      Art
      Politics
      Letters To Juliet
      Society
      Universe
      Self-Help
      Modern Romance
      Fantasy
      Humor
      Something Else
      Adventure
      Commentary
      Confessions
      Crime
      Dark Fantasy
      Dear Diary
      Dear Mom
      Dreams
      Episodic/Serial
      Fan Fiction
      Flash Fiction
      Ideas
      Musings
      Parenting
      Play
      Screenplay
      Self-biography
      Songwriting
      Spirituality
      Travelogue
      Young Adult
      Science Fiction
      Children's Story
      Sci-Fantasy
      Poetry Wars
      Sponsored
      Horror
    Cancel

    You can edit published STORIES

    Language

    Delete Opinion

    Delete Reply

    Report Content


    Are you sure you want to report this content?



    Report Content


    This content has been reported as inappropriate. Our team will look into it ASAP. Thank You!



    By signing up you agree to Launchora's Terms & Policies.

    By signing up you agree to Launchora's Terms & Policies.